• ١٦ تشرين ثاني/نوفمبر ٢٠٢٤ | ١٤ جمادى الأولى ١٤٤٦ هـ
البلاغ

أهلية المرأة في الشريعة الإسلامية للعمل السياسي

الشيخ محمّد مهدي شمس الدِّين

أهلية المرأة في الشريعة الإسلامية للعمل السياسي

ربّما يُقال من أنّ إفراد الرجل بالذكر في هذه الآية مشعر بمسؤوليته القيادية في الحياة مطلقاً، لأنّ إفراده يوحي بأنّه أكثر مسؤولية من المرأة وأنّها تابعة له ومتأثرة به؛ لا وجه له، لما ذكرنا من جهة، ولأنّه تعالى حمّلهما المسؤولية معاً وعلى نحو الاشتراك.

ثمّ إنّ الله تعالى بيَّن أنّ آدم وزوجه تابا وقبل الله توبتهما، فقال تعالى: (قَالا رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ) (الأعراف/ 23).

ثمّ قطع الله تعالى دابر كلّ شُبهة في سريان آثار الذنب إلى غير مرتكبه، وبيَّن أنّ البشر بريئون ممّا ارتكب أبواهم، فقال تعالى: (تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَهَا مَا كَسَبَتْ وَلَكُمْ مَا كَسَبْتُمْ وَلا تُسْأَلُونَ عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ) (البقرة/ 134).

وقد رتّب الله تعالى على تأكيد تمتع المرأة بالإنسانية الكاملة، وأهليتها الروحية والأخلاقية الكاملة، وطهارتها وبراءتها الكاملة؛ وجوب إكرامها واحترامها، وحرّم كلّ إساءة إليها وتشاؤم فيها، بنتاً وأُختاً وأُمّاً وزوجة وعضواً في المجتمع. فحرّم الله وأد الأُنثى، وذمَ التشاؤم بها وكراهة ولادتها، وسمّى ذلك حُكماً سيِّئاً، فقال تعالى في شأن الوأد: (وَإِذَا الْمَوْءُودَةُ سُئِلَتْ * بِأَيِّ ذَنْبٍ قُتِلَتْ) (التكوير/ 8-9).

وقال تعالى في شأن التشاؤم بالأُنثى، في سياق بيان بعض ملامح ثقافة الشرك والجاهلية وسلوك المشركين: (وَإِذَا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِالأنْثَى ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا وَهُوَ كَظِيمٌ * يَتَوَارَى مِنَ الْقَوْمِ مِنْ سُوءِ مَا بُشِّرَ بِهِ أَيُمْسِكُهُ عَلَى هُونٍ أَمْ يَدُسُّهُ فِي التُّرَابِ أَلا سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ) (النحل/ 58-59).

وأوجب إكرام المرأة في المجتمع بقوله تعالى: (وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ) (الإسراء/ 70). وقوله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا يَسْخَرْ قَومٌ مِنْ قَوْمٍ عَسَى أَنْ يَكُونُوا خَيْرًا مِنْهُمْ وَلا نِسَاءٌ مِنْ نِسَاءٍ عَسَى أَنْ يَكُنَّ خَيْرًا مِنْهُنَّ وَلا تَلْمِزُوا أَنْفُسَكُمْ وَلا تَنَابَزُوا بِالألْقَابِ بِئْسَ الاسْمُ الْفُسُوقُ بَعْدَ الإيمَانِ) (الحجرات/ 11).

وخصّص المرأة أُمّاً بأعظم التكريم والرعاية والاحترام، فقال تعالى: (وَوَصَّيْنَا الإنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ إِحْسَانًا حَمَلَتْهُ أُمُّهُ كُرْهًا وَوَضَعَتْهُ كُرْهًا) (الأحقاف/ 15).

ورفع المرأة الزوجة من مستوى الرقيق التابع للزوج إلى مستوى الشريك الكامل، فقال تعالى من جملة آيات كثيرة: (وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً) (الروم/ 21). وقال تعالى: (وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ) (النِّساء/ 19).

لقد بيَّن القرآن الكريم أُصول النظرة إلى المرأة في جميع حالاتها وأُصول السلوك تجاهها، وفصّلت السُّنّة ذلك في مئات الروايات التي لا تترك أدنى أثر للشكّ في مساواة للرجل في الكرامة، والأهلية، والحقوق.

وقد ترتب على ذلك وضعٌ حقوقيٌّ أثبته الشارع المقدّس للمرأة في مجال الأهلية الشخصية (في الولاية على الذات) والاقتصادية، فأثبت لها الولاية على نفسها ومالها وعملها حين تبلغ سن التكليف وتكون رشيدة في تصرُّفاتها. ولم يجعل لأحد عليها ولاية في شيء إلّا في موردين:

أوّلهما ـ الأب والجد للأب في شأن الزواج إذا كانت بكراً، على القول الراجح عندنا مقابل قول باستقلالها المطلق وعدم ولايتهما، وهو القول المشهور. وولايتهما ـ بناء عليها ـ ليست مطلقة ولا استبدادية ولا استقلالية، بل هي في حدود النظر لمصلحة البنت وبضميمة ولايتها على نفسها.

وثانيهما ـ الزوج، في خصوص ما يتعلّق بحقوق الزوجية في مجال الاستمتاع. وفيما عدا هذين الموردين لا قيد لها، ولا ولاية لأحد عليها.

أهلية المرأة للعمل السياسي وتولي المسؤوليات السياسية

إنّ المركز الذي أحل الإسلام فيه المرأة بموازاة الرجل في كلّ ما تشترك فيه طباعهما ومؤهلاتهما، يخولها أن تشارك في العمل السياسي في حدود احترام التكاليف الشرعية التي تختص بها المرأة في زيّها، ونمط علاقتها بالرجال الأجانب، وفي مسؤولياتها الزوجية والعائلية.

فلا ريب في أنّ المرأة المسلمة تتحمّل مع الرجل المسلم في المجتمع المسلم مسؤولية الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ومسؤولية الاهتمام بأُمور المسلمين. فلم يجعلها الشارع محايدة إزاء ما يجري في المجتمع. وما ورد في الكتاب والسُّنّة في هذا الشأن شامل للرجال والنساء وليس مختصاً بالرجال. فمن ذلك قوله تعالى: (وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَيُطِيعُونَ اللهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللهُ إِنَّ اللهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ) (التوبة/ 71).

ومن ذلك الحديث النبويّ المشهور: «مَن أصبح وأمسى ولم يهتم بأُمور المسلمين فليس منهم».

إنّ هذه الأدلة ـ وما بمعناها في الكتاب والسُّنّة ممّا لم نذكره ـ شاملة للمرأة.

وبعد أن ثبت بما سبق بيانه أنّ المرأة ـ بحسب أصل الخلقة والتكوين ـ تتمتع بالأهلية الكاملة، فإنّ هذه الأدلة تثبت أنّها مؤهلة للاهتمام العملي بالشأن العام للمجتمع والأُمّة، وللتعرُّف على حاجات المجتمع والأُمّة، ولمراقبة الحكومة وأعمالها والسياسيين ومواقفهم على ضوء معرفتها بحاجات المجتمع والأُمّة، ولإبداء رأيها في ذلك، ناقدة ومؤيدة ومعارضة، وللعمل على الاستجابة للحاجات وحل المشاكل.

سوابق في سيرة المسلمين في هذا الشأن

ويثير بعض المانعين من مشروعية عمل المرأة في المجال السياسي أو المتحفظين المحتاطين في هذا الشأن، التساؤل التالي:

أليس لو كانت المرأة مؤهلة شرعاً للعمل السياسي، لَمارسته النِّساء المسلمات في الصدر الأوّل للإسلام في عصر النبيّ (ص) والخلفاء الراشدين؟ ولو كان الأمر مشروعاً لشاع وذاع بين المسلمين؟

ونحن نخالف هؤلاء الأعلام في فهمهم لعلاقة المرأة بالعمل السياسي في صدر الإسلام. ولعلّهم انطلقوا في فهمهم لهذه العلاقة من تصوّرٍ لشكلٍ وأسلوبٍ في العمل السياسي يشابه أو يقارب الشكل والأسلوب السائدين في زماننا وما قاربه، فلا يرون لذلك أثراً في سلوك المرأة في صدر الإسلام. كما أنّهم لاحظوا أنّ المرأة المسلمة لم تتصد لتولي الحكم والسلطان على مستوى رئاسة الدولة.

وإذا كان الأمر هكذا، فهو نتيجة غفلة عن المناخ الفقهي الكلامي الذي كان يسيطر على التوجّه الفكري في قضية رئاسة الدولة. وخطأ في تشخيص حقل العمل السياسي وطبيعته في ذلك العهد.

أمّا وجه الغفلة، فمن جهة أنّ قضية رئاسة الدولة كانت محكومة على مستوى رؤية عامّة المسلمين بقضية أنّ الأئمّة من قريش، والروايات التي قرّرت هذا المبدأ نصّت على اثني عشر رجلاً من قريش، وكانت محكومة على مستوى خطّ أئمّة أهل البيت (ع) بمبدأ النص وتحديد الخليفة بشخص الإمام عليّ بن أبي طالب (ع) والأئمّة المعصومين من وُلده.

ولهذا وذاك لم يكن ثمّة مجال ـ على المستوى الشرعي ـ لأن تتصدّى المرأة لتولي هذه المهمّة.

هذا ـ فيما نقدر ـ وجه الغفلة في فهم هذه المسألة. وأمّا وجه الخطأ، فمن جهة أنّ أشكال وأساليب العمل السياسي تختلف باختلاف شكل المجتمع ومؤسساته وطُرق التعبير السياسي فيه.

وما كان سائداً في صدر الإسلام هو أنّ محور العمل السياسي في عصر النبيّ (ص)، كان النبيّ والنبوّة والدعوة وما واجهته من كيد وعدوان، وما خاضه المسلمون من حروب دفاعاً عن كيانهم وعقيدتهم.

ولم تكن المرأة في هذا المضمار كائناً سلبياً وكمّاً مهملاً، ولم يقتصر دورها على الانفعال والتلقي، بل كان للمرأة ـ في أشخاص كثير من المسلمات أدوار فاعلة وإيجابية في تلقي الدعوة والعمل لها وتحمّل الأذى في سبيلها، والهجرة عن الوطن والأهل فِراراً بها، والمشاركة في الحرب في مجال خدمة المجاهدين ـ والقتال في بعض الحالات ـ والسيرة النبويّة حافلة بالشواهد على ذلك.

وقد تلقى النبيّ (ص) بيعة النِّساء في العقبة وبعد الهجرة. وفيما بعد عصر النبوّة كان محور العمل السياسي هو الخلافة والنزاع فيها وحولها. ولم تكن المرأة في المجتمع الإسلامي آنذاك مؤهلّة ـ على المستوى الثقافي العملي ـ للتصدّي لهذه المهمّات وما يتصل بها ويلابسها. كما أنّ المجتمع ـ على مستوى الأعراف والتقاليد ـ لم يكن يسيغ تصدّي المرأة لمهمّة العمل السياسي على مستوى السلطة العليا، ولم يكن مؤهّلاً على مستوى ثقافته الموروثة من العهد الجاهلي، ونظرة هذه الثقافة إلى المرأة لقبول فكرة تولّي المرأة لأي موقع قيادي من مواقع السلطة، وهي ثقافة كانت لا تزال حيّة في عقول ونفوس المجتمع.

مجال هذا البحث ومحله

لقد رأينا فيما تقدّم أنّ مجالات العمل السياسي متعدِّدة ومتنوِّعة. وكلّها موضوع للجدل على مستوى الفقهي، من حيث أهلية المرأة للعمل فيها. ففي الفقهاء مَن ينفي أهلية المرأة شرعاً لكلّ نشاط في المجتمع عدا العلاقات الزوجية وشؤون الأولاد والأُسرة. وفيهم مَن ينفي أهلية المرأة شرعاً لانتخاب النواب وأعضاء المجالس البلدية فضلاً عن تولي النيابة والوزارة. وفيهم مَن يسلّم بأهليتها للانتخاب، ويمنع من أهليتها للنيابة وغيرها. وفيهم مَن يسلّم بأهليتها للنيابة وعضوية مجالس الشورى (البرلمان) وينفي أهليتها لتولي الوزارة والإدارة. وفيهم مَن يسلم بأهليتها شرعاً لتولي هذه المناصب.

ولكن المشهور بين الفقهاء قديماً وحديثاً ـ عدا الفرد النادر ـ هو عدم أهلية المرأة شرعاً لتولي رئاسة الدولة.

ولذلك فقد رأينا أن نبحث أوّلاً عن الحكم الشرعي في مسألة تولي المرأة لرئاسة الدولة، وعلى ضوء نتيجة البحث فيها نبحث عن أهلية المرأة وعدمها للعمل السياسي في المجالات الأُخرى.

أهلية المرأة لتولي الحكم وعدمها

تحرير المسألة

هل يجوز في الشرع الإسلامي للمرأة ذات الكفاءة العملية والذهنية والأهلية السلوكية والأخلاقية، أن تتولى الحكم في الدولة، فتكون رئيسة للدولة أو رئيسة للوزراء، فضلاً عن توليها إحدى السلطات الوزارية أو الإدارية، أو لا يجوز لها ذلك؟.

ومن جهة أُخرى: هل يجوز للمجتمع/ الشعب أن يولي زمام أُموره إلى امرأة فيسند إليها مهمّة رئاسة الدولة أو رئاسة وزرائها، فضلاً عن توليها سلطة أقل أهمّية من ذلك، كأن تكون وزيرة أو رئيسة إدارية لإحدى الإدارات العامّة في الدولة؟.

والمسألتان متلازمتان على الظاهر، فإذا جاز للمرأة أن تتولى جاز للشعب أن يولي، وإذا جاز للشعب أن يولي جاز للمرأة أن تتولى، إذ لا يتصوّر التفكيك في المشروعية، بأن يجوز لها أن تتولى ولا يجوز للشعب أن يوليها، أو يجوز للشعب أن يوليها ولا يجوز لها أن تتولى. إذ في هذه يكون حكم الجواز والمشروعية لغواً لا أثر له ما دام لا يمكن أن يطبق نتيجة لعدم المشروعية في الطرف الآخر.

وعلى هذا، فإذا ثبت بالدليل الشرعي جواز تولي المرأة للحكم، ثبت بالملازمة القطعية جواز توليتها ـ وإذ ثبت جواز توليتها ثبت بالملازمة القطعية جواز توليها.

وسنبحث في حكم المسألة من الوجهين:

فنبحث تارة عما إذا كان يوجد حظر شرعي على المرأة من هذه الجهة، بأن يدل دليل معتبر عند الشارع على تحريم تولي المرأة للحكم وعدم أهليتها شرعاً لتولي هذه المهمّة، اعتبار أنّها مهمّة مشروطة بالذكورة، فلا صلاحية للمرأة تخولها توليها. وفي هذه الحالة يثبت بالملازمة عدم مشروعية توليتها من قبل الأُمّة، فإذا حصل ذلك وقع باطلاً، ويكون توليها غير شرعي وتوليتها غير مشروعة.

ونبحث تارة أُخرى عما إذا كان يوجد حظر شرعي على الأُمّة من هذه الجهة، بأن يدل دليل معتبر عند الشارع على حرمة تولية المرأة للحكم من قبل الأُمّة، وعدم أهلية الأُمّة للقيام بذلك وعدم ولايتها على نفسها من هذه الجهة باعتبار أنّها مهمّة مشروطة بالذكورة، وفي هذه الحالة يثبت بالملازمة عدم مشروعية تولي المرأة للحكم، فإذا أقدمت الأُمّة على اختيار امرأة كان اختيارها باطلاً لا أثر له شرعاً، ويكون تولي امرأة المختارة للحكم ـ على أساسه ـ غير شرعي.

 

المصدر: كتاب أهلية المرأة لتولي السلطة

ارسال التعليق

Top